يقول رحمه الله: وقال أيضاً: [( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً )].
هذا يدخل فيه الكمال الواجب والكمال المستحب بحسب الخلق، فإن كان الخلق واجباً فهو كمال واجب، وإن كان الخلق مستحباً فهو كمال مستحب، فلا يكمل الإيمان الواجب إلا بأن يستكمل العبد حسن الخلق الواجب، كحسن الخلق مع الوالدين، مع الزوجة، مع الجار، مع القرابة، مع الرحم، والمستحب هو ما كان مستحباً مع هؤلاء، أي: زيادة على القدر الواجب، أو مع عامة الخلق مما ليس بواجب؛ لأن حسن الخلق هو النعمة والميزة والخير العظيم الذي لو أن إنساناً أوتيه، واكتمل لديه وتخلق به، فقد أوتي خير الدنيا والآخرة؛ ولذلك (ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة) كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن الخلق درجته عظيمة، وفضله كبير، وهو الذي فضل الله تبارك وتعالى به أساساً بالدرجة الأولى الأنبياء قبل أن يوحى إليهم، وقبل أن يبعثوا، وقبل أن تنزل عليهم الكتب، أو يؤمروا بالرسالة، قال تعالى: (( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ))[القلم:4]، فكل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم تشهد لهم أممهم وأقوامهم بحسن الخلق، بالأمانة، بالصدق في الحديث، بالبر، بالوفاء بالعهد، بالكرم، بالشجاعة، بكل ما تجمع العقول السليمة على أنه حسن، ومن حكمة الله أن هذه الأخلاق تجمع عليها الفطر والعقول السليمة في جميع الملل، بل حتى من يعبد الأبقار أو الأحجار أو النيران أو غير ذلك، حتى الأمم الكافرة مجمعة على الإشادة بهذه الفضائل والأخلاق، وأن من أوتيها فإنه يستحق الثناء والإعجاب والتقدير، وكل من يراه ويعلم حاله فإنه يثني عليه بذلك ويعجب به؛ ولهذا أوتي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أكبر الحظ من هذا، ثم الدعاة إلى الله أتباع الأنبياء كما ذكر الله تعالى: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ))[يوسف:108]، فهم أكثر الناس حظاً في ذلك، ويجب أن يكون من يريد أن يكون داعيةً أكبر حظٍ لديه هو أن يكون على قدر من حسن الخلق، والتعامل مع الناس، والعلم لا بد منه، ولا يشك في ذلك أحد، وهو من البصيرة التي ذكرها الله، لكن العلم بلا أخلاق لا يجدي، بل ربما كان العلم بلا أخلاق سبب في رد العلم والفتوى وقول الحق، فلا بد من حسن الخلق؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أوصى في حديث أبي ذر و معاذ رضي الله عنهما قال: ( اتق الله حيثما كنت )، فهذه هي الوصية الأولى، وهي كلمة وجيزة وجامعة مانعة، وقوله: (حيثما كنت)، لا تقل: في المسجد فقط، بل اعلم أن الله تعالى رقيب مطلع عليك، فاتق الله حيثما كنت، وهذه مع الله تعالى، وأما الثانية فهي مع نفسك، فقال عليه الصلاة والسلام: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها )، كيف أتعامل مع هذه النفس الأمارة بالسوء؟ كلما أسأت فأتبع السيئة الحسنة تمحها، واجعل هذا همك وشغلك.
وأما الثالثة فهي قوله عليه الصلاة والسلام: ( وخالق الناس بخلق حسن ) وليعلم أن الذي دخل به الناس في دين الله أفواجاً هو حسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، ومن نظر إلى بلاد الشام و العراق و مصر وشمال إفريقيا وغيرها -البلاد التي هي الآن أهم وأكثر بلاد العالم بنسبة الإسلام- يجد أنها كانت مستعمرة محتلة من قبل الإمبراطورية الرومانية، وكان جيش الروم هو الذي يواجه جيش المسلمين، وليس جيش أهل البلاد، فيهزمهم المسلمون -بإذن الله- ويدخلون تلك البلاد، وبعضها يدخلونها صلحاً وتدفع الجزية، وكلهم كانوا على الدين الأول الذي هو النصرانية ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن المسلمين لما دخلوا دمشق ما كان لهم في دمشق إلا مسجداً واحداً يجتمعون فيه، ويصلون فيه، والجيوش تتقدم وتزحف، فيبقون فقط الوالي أو الأمير الذي يختار لفتح المدينة ومعه بعض الأعوان، فيجمعهم كلهم مسجد واحد، والبقية على دين النصرانية ، وقس على ذلك بقية المدن، فكيف دخل هؤلاء؟ لما رأوا أخلاق الصحابة قالوا: والله ما الحواريون الذين صحبوا المسيح بأفضل خلقاً من هؤلاء، فتعجبوا من أين جاءت هذه الأخلاق؟ عندما يكون الوالي عليهم مثل سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، فينظرون إلى معاملتهم في الحرب وفي السلم، إلى رفقهم باليتيم، إلى شفقتهم وعطفهم بالكبير، إلى عدلهم ورحمتهم، فلا ضرائب ولا مكوس ولا تجنيد إجباري، وحتى الجزية التي تؤخذ منهم لا تؤخذ من كل أحد، فالذي لا يستطيعها لا يؤخذ منه أي شيء، وهم مقابل هذه الجزية في أمنٍ وأمان وطمأنينة على دينهم وأعراضهم وأموالهم، إنه شيء لا يتخيل أن يوجد الآن في هذا الزمان مع ما قيل من مواثيق وحقوق الإنسان وإعلانات.. إلخ ذلك؛ ولذلك يدخلون في الإسلام طواعية، ويتدفقون على الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- وأئمة الدعوة والعلم من التابعين وغيرهم، وما تمضي إلا سنوات وإذا بكل تلك البلاد قد أصبحوا مسلمين إلا القليل، لا نتيجة قتال، وإنما لما رأوا هذه الأخلاق وهذه المعاملة الحسنة، ولا زال هذا حتى في عصرنا الحاضر، فتجد أن تأثير الخلق عظيم، وكثير من أبناء المسلمين ما تركوا دينهم وانحرفوا وانجرفوا إلا لما قيل لهم تمويهاً ورأوا أيضاً في الواقع مظهرياً أن الكفار عندهم وفاء وصدق في المعاملة، فلا يغشون في البيع والشراء وما أشبه ذلك، فترسبت هذه خطأً أن الكفار لا يكذبون ولا يغشون، وليس الأمر هكذا، بل هم أكذب الناس وأغدرهم، لكنهم في الجانب العملي النفعي، كجانب التجارة، أو جانب المعاملة التي لو كذبوا فيها لخسروا، يتعاملون بما ظاهره أنه صدق، وهو في الحقيقة التزام بمبدأ تجاري ثابت، وليس مما يريدون به وجه الله، ولا مما يطلبون أجره عند الله، فإنسان يقول: يا أخي! تبايعنا وتشارينا مع المسلمين، فوجدنا الغش والكذب والخلف وكذا، لكن هؤلاء الكفار لا، ليسوا كذلك؛ ولذلك يعجب بأخلاقهم، فإذا جاء أحد في مجلس وذكر الناس بالجنة والنار، وحدثهم عن الآخرة وعن مصير الكفار، وكيف أن هؤلاء المؤمنين هم أولياء الله؟ وكيف أن هؤلاء المجرمين هم أولياء الشيطان وما أشبه ذلك، قام المعترض واعترض فقال: والله إن تعاملهم طيب، وقد جربناهم، فوجدنا الصدق والوفاء والأخلاق الطيبة، مع ما سمع من آيات وأحاديث تدل على أن مصيرهم إلى النار، ومع كل هذا يعترض أو يتساءل بالأخلاق؛ لأن الخلق مهم جداً، وفي المقابل إذا أحسن الدعاة أخلاقهم مع الناس، ورأوا منهم الرحمة والشفقة والحرص والاهتمام، وأنه ما يريد إلا الخير لهم، ستجد أيضاً من يقف مثل هذا الموقف عند من يطعن في الدين وأهل الدين والدعوة والقائمين بها؛ لأن هذا -كما ذكر شيخ الإسلام - العدل مما فطرت عليه الأمم جميعاً، فمحبة العدل مطلوب ومحبوب لدى الخلق كافة، مؤمنهم وكافرهم، فهم يريدون العدل، ويظنون أنهم بهذا يحققون هذه السمة المشتركة عند الناس، فإذا صدق المؤمنون وصبروا وتحملوا؛ فإن العدل الذي فطر الله القلوب عليه وأودعه في نفوسهم، لا بد أن يظهر أثره، فتجد من ينصف أهل الإيمان وأهل الدعوة وأهل الحق ولو لم يؤمن، وهذا العدل ظهر في كلام هرقل -مثلاً- لما قيل له: إن من صفات النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وذلك لما سأل أبا سفيان كما في الحديث العظيم، فما ملك إلا أن قال: هذا نبي، أو بعد أن انتهى من هذا الاستعراض قضية قضية، وصفة صفة، ودليلاً دليلاً، إلا أن قال: هذه حقاً دلائل النبوة، وليملكن ما تحت قدمي هاتين. وهذا من العدل، وكذلك كل من كان لديه إنصاف، بل إن الذي يعادي الدين ويعادي أهل الدين وهو يعلم أن فيهم الخير والصلاح؛ فإنه وإن عاداهم بقوله فهو يعلم بقلبه أنه كاذب ومفتري عليهم، وهذا خير من أن يفعل ذلك وهو متأكد من أن أخلاقهم وفضاضتهم وغلظتهم قد أساءت إليه، فجعلته لا يقبل الحق؛ ولذلك لا نضرب مثلاً فقط بالأنبياء، بل نضرب مثلاً آخر بغير الأنبياء، لرجل يقال أن اسمه: حبيب النجار -والله أعلم باسمه- صاحب آل ياسين الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة يس، فقد أعرض عنه قومه، وأبو أن يقبلوا دعوته، فتوفاه الله سبحانه وتعالى، وأول ما لقي الله تعالى قال له: (( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ))[يس:26]، أي: توفاه الله عز وجل فأدخله الجنة على توحيده وإيمانه ودعوته ونصحه لقومه: (( قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ))[يس:20-21]، فهل هناك أحد يرفض هذه الدعوة؟ إنها دعوة لا تطلب منك مالاً ولا أجراً، وإنما هي دعوة هدى وحق وتقى: (( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ))[يس:26]، أي: تمنى أن قومه يعلمون بما هو فيه من النعيم، وما أكرمه الله تبارك وتعالى به؛ لأنهم لو علموا لآمنوا، رغم ما ناله منهم من الأذى الكثير، وهكذا الذي يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، فيوطن نفسه على تحمل ما يأتيه من الخلق: (( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا ))[إبراهيم:12]، أي: مهما فعلتم بنا فنحن سوف نصبر على ما آذيتمونا، وهذا من حسن خلق الدعاة والأنبياء والمصلحين، وبه ينالون الدرجات العليا بإذن الله تبارك وتعالى، فيعاديهم من يعاديهم وهو يعلم في قرارة نفسه أنه مخطئ وظالم، لكن إن وجد من أخلاقهم الغلظة والفظاظة فإنه يجعل من يعاديهم يرى أنه محق؛ لأنه رأى هذا الخلق الذي لا يليق، أو الظلم، أو تحميل الخطأ أكثر مما ينبغي وهكذا.